فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال تعالى: {إنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ} لما ذكر أن ملكوته كثيرًا أشار إلى ما يحقق ذلك فقال: {إنَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ} أي كامل القدرة فيكون له مقدورات لا نهاية لها وإلا لانتهت القدرة إلى حيث لا تصلح للإيجاد وهو حكيم كامل العلم ففي علمه ما لا نهاية له فتحقق أن البحر لو كان مدادًا لما نفد ما في علمه وقدرته.
ثم قال تعالى: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} لما بين كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للمعشر وقال: {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} ومن لا نفاد لكلماته يقول للموتى كونوا فيكونوا.
ثم قال تعالى: {إنَّ الله سَميعٌ بَصيرٌ} سميع لما يقولون بصير بما يعملون فإذًا كونه قادرًا على البعث ومحيطًا بالأقوال والأفعال يوجب ذلك الاجتناب التام والاحتراز الكامل.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهَار وَيُولجُ النَّهَارَ في اللَّيْل وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْري إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ (29)}.
يحتمل أن يقال: إن وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما قال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا في السموات وَمَا في الأرض} [لقمان: 20] على وجه العموم ذكر منها بعض ما هو فيهما على وجه الخصوص بقوله: {يُولجُ الليل في النهار} وقوله: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} إشارة إلى ما في السموات، وقوله بعد هذا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرى في البحر بنعْمَت الله} [لقمان: 31] إشارة إلى ما في الأرض.
ويحتمل أن يقال إن وجهه هو أن الله تعالى لما ذكر البعث وكان من الناس من يقول: {وَمَا يُهْلكُنَا إلاَّ الدهر} [الجاثية: 24] والدهر هو الليالي والأيام، قال الله تعالى هذه الليالي والأيام التي تنسبون إليها الموت والحياة هي بقدرة الله تعالى فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولجُ الليل في النهار وَيُولجُ النهار في الليل} ثم إن قائلًا لو قال إن ذلك اختلاف مسير الشمس تارة تكون القوس التي هي فوق الأرض أكثر من التي تحت الأرض فيكون الليل أقصر والنهار أطول وتارة تكون بالعكس وتارة يتساويان فيتساويان فقال تعالى: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} يعني إن كنتم لا تعترفون بأن هذه الأشياء كلها في أوائلها من الله فلابد من الاعتراف بأنها بأسرها عائدة إلى الله تعالى، فالآجال إن كانت بالمدد والمدد بسير الكواكب فسير الكواكب ليس إلا بالله وقدرته، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
إيلاج الليل في النهار يحتمل وجهين أحدهما: أن يقال المراد إيلاج الليل في زمان النهار أي يجعل في الزمان الذي كان فيه النهار الليل، وذلك لأن الليل إذا كان مثلًا اثنتي عشرة ساعة ثم يطول يصير الليل موجودًا في زمان كان فيه النهار وثانيهما: أن يقال المراد إيلاج زمان الليل في النهار أي يجعل زمان الليل في النهار وذلك لأن الليل إذا كان كما ذكرنا اثنتي عشرة ساعة إذا قصر صار زمان الليل موجودًا في النهار ولا يمكن غير هذا لأن إيلاج الليل في النهار محال الوجود فما ذكرنا من الإضمار لابد منه لكن الأول أولى لأن الليل والنهار أفعال والأفعال في الأزمنة لأن الزمان ظرف فقولنا الليل في زمان النهار أقرب من قولنا زمان الليل في النهار لأن الثاني يجعل الظرف مظروفًا.
إذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى: {يُولجُ الليل في النهار} أي يوجده في وقت كان فيه النهار والله تعالى قدم إيجاد الليل على إيجاد النهار في كثير من المواضع كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار ءايَتَيْن} [الإسراء: 12] وقوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وقوله: {واختلاف الليل والنهار} [الجاثية: 5] ومن جنسه قوله: {خَلَقَ الموت والحياة ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وهذا إشارة إلى مسألة حكمية، وهي أن الظلمة قد يظن بها أنها عدم النور والليل عدم النور والليل عدم النهار والحياة عدم الموت وليس كذلك إذ في الأزل لم يكن نهار ولا نور ولا حياة لممكن ولا يمكن أن يقال كان فيه موت أو ظلمة أو ليل فهذه الأمور كالأعمى والأصم فالعمى والصمم ليس مجرد عدم البصر وعدم السمع إذ الحجر والشجر لا بصر لهما ولا سمع ولا يقال لشيء منهما إنه أصم أو أعمى إذا علم هذا فنقول ما يتحقق فيه العمى والصمم لابد من أن يكون فيه اقتضاء لخلافهما وإلا لما كان يقال له أعمى وأصم وما يكون فيه اقتضاء شيء، ويترتب عليه مقتضاه لا تطلب النفس له سببًا، لأن من يرى المتعيش في السوق، لا يقول لم دخل السوق وما يثبت على خلاف المقتضى تطلب النفس له سببًا، كمن يرى ملكًا في السوق يقول لم دخل، فإذن سبب العمى والصمم يطلبه كل واحد فيقول لم صار فلان أعمى ولا يقول لم صار فلان بصيرًا، وإذا كان كذلك قدم الله تعالى ما تطلب النفس سببه وهو الليل الذي هو على وزان العمى والظلمة والموت لكون كل واحد طالبًا سببه ثم ذكر بعده الأمر الآخر.
المسألة الثانية:
قال: {يُولجُ} بصيغة المستقبل وقال في الشمس والقمر سخر بصيغة الماضي لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل فصل بل كل يوم وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر كما قال تعالى: {حتى عَادَ كالعرجون القديم} [ياس: 39].
المسألة الثالثة:
قدم الشمس على القمر مع تقدم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لما بينا أن تقديم الليل كان لأن الأنفس تطلب سببه أكثر مما تطلب سبب النهار، وههنا كذلك، لأن الشمس لما كانت أكبر وأعظم كانت أعجب، والنفس تطلب سبب الأمر العجيب أكثر مما تطلب سبب الأمر الذي لا يكون عجيبًا.
المسألة الرابعة:
ما تعلق قوله تعالى: {وَأَنَّ الله بمَا تَعْمَلُونَ خَبيرٌ} بما تقدم؟ نقول لما كان الليل والنهار محل الأفعال بين أن ما يقع في هذين الزمانين اللذين هما بتصرف الله لا يخفى على الله.
المسألة الخامسة:
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه الأكثرون، وكأنه ترك الخطاب مع غيره، لأن من هو غيره من الكفار لا فائدة للخطاب معهم لإصرارهم، ومن هو غيره من المؤمنين فهم مؤتمرون بأمر النبي عليه الصلاة والسلام ناظرون إليه الوجه الثاني: أن يقال المراد منه الوعظ والواعظ يخاطب ولا يعين أحدًا فيقول لجمع عظيم: يا مسكين إلى الله مصيرك، فمن نصيرك، ولماذا تقصيرك.
فقوله: {أَلَمْ تَرَ} يكون خطابًا من ذلك القبيل أي يا أيها الغافل ألم تر هذا الأمر الواضح.
{ذَلكَ بأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ منْ دُونه الْبَاطلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَليُّ الْكَبيرُ (30)}.
ولما ذكر تعالى أوصاف الكمال بقوله: {إنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} [لقمان: 26] وقوله: {إنَّ الله عَزيزٌ حَكيمٌ} [لقمان: 27] وقوله: {إنَّ الله سَميعٌ بَصيرٌ} [لقمان: 28] وأشار إلى الإرادة والكمال بقوله: {مَّا نَفدَتْ كلمات الله} [لقمان: 27] وبقوله: {يُولجُ الليل في النهار} [لقمان: 29] وعلى الجملة فقوله: {هُوَ الغنى} إشارة إلى كل صفة سلبية فإنه إذا كان غنيًا لا يكون عرضًا محتاجًا إلى الجوهر في القوام، ولا جسمًا محتاجًا إلى الحيز في الدوام، ولا شيئًا من الممكنات المحتاجة إلى الموجد، وذكر بعده جميع الأوصاف الثبوتية صريحًا وتضمنًا، فإن الحياة في ضمن العلم والقدرة قال ذلك بأن الله هو الحق أي ذلك الاتصاف بأنه هو الحق والحق هو الثبوت والثابت الله وهو الثابت المطلق الذي لا زوال له وهو الثبوت، فإن المذهب الصحيح أن وجوده غير حقيقته فكل ما عداه فله زوال نظرًا إليه والله له الثبوت والوجود نظرًا إليه فهو الحق وما عداه الباطل لأن الباطل هو الزائل يقال بطل ظله إذا زال وإذا كان له الثبوت من كل وجه يكون تامًا لا نقص فيه.
ثم اعلم أن الحكماء قالوا الله تام وفوق التمام وجعلوا الأشياء على أربعة أقسام ناقص ومكتف وتام وفوق التمام فالناقص ما ليس له ما ينبغي أن يكون له كالصبي والمريض والأعمى والمكتفي وهو الذي أعطى ما يدفع به حاجته في وقته كالإنسان والحيوان الذي له من الآلات ما يدفع به حاجته في وقتها لكنها في التحلل والزوال والتام ما حصل له كل ما جاز له، وإن لم يحتج إليه كالملائكة المقربين لهم درجات لا تزداد ولا ينقص الله منها لهم شيئًا كما قال جبريل عليه السلام: «لو دنوت أنملة لاحترقت» لقوله تعالى: {وَمَا منَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] وفوق التمام هو الذي حصل له ما جاز له وحصل لما عداه ما جاز له أو احتاج إليه لكن الله تعالى حاصل له كل ما يجوز له من صفات الكمال ونعوت الجلال، فهو تام وحصل لغيره كل ما جاز له أو احتاج إليه فهو فوق التمام إذا ثبت هذا فنقول قوله: {هُوَ الحق} إشارة إلى التمام وقوله: {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} أي فوق التمام وقوله: {وَهُوَ العلى} أي في صفاته وقوله: {الكبير} أي في ذاته وذلك ينافي أن يكون جسمًا في مكان لأنه يكون حينئذ جسدًا مقدرًا بمقدار فيمكن فرض ما هو أكبر منه فيكون صغيرًا بالنسبة إلى المفروض لكنه كبير من مطلقًا أكبر من كل ما يتصور. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَلَو أَنَّمَا في الأَرْض من شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} الآية.
وفي سبب نزولها قولان:
أحدهما: ما رواه سعيد عن قتادة أن المشركين قالوا إنما هو كلام يعني القرآن يوشك أن ينفد، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه لو كان شجر البر أقلامًا ومع البحر سبعة أبحر مدادًا لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وعلمه.
الثاني: ما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قالت له أحبار اليهود يا محمد أرأيت قولك: {وَمَا أُوتيْتُم مّنَ الْعلْم إلاَّ قَليلًا} [الإٍسراء: 85] إيانا تريد أم قومك؟ قال: كُلٌ لَمْ يُؤْتَ منَ الُعلْم إلاَّ قَليلًا أَنْتُم وَهُمْ قالوا: فإنك تتلو فيما جاءك من الله أنَّا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّهَا في علْم اللَّه قَليلٌ» فنزلت هذه الآية.
ومعنى: {يَمُدُّهُ} أي يزيد فيه شيئًا بعد شيء فيقال في الزيادة.
مددته وفي المعونة أمددته. {مَا نَفَدَتْ كَلمَاتُ اللَّه} ونفاد الشيء هو فناء آخره بعد نفاد أوله فلا يقال لما فني جملة: نفد.
وفي {كَلمَاتُ اللُّه} هنا أربعة أوجه:
أحدها: أنها نعم الله على أهل طاعته في الجنة.
الثاني: على أصناف خلقه.
الثالث: جميع ما قضاه في اللوح المحفوظ من أمور خلقه.
الرابع: أنها علم الله.
قوله تعالى: {مَا خَلْقَكُمُ وَلاَ بَعْثُكُمْ إلاَّ كَنَفْسٍ وَاحدَةٍ} يقال إنها نزلت في أُبي بن خلف وأبي الأشدين ومنبه ونبيه ابني الحجاج بن السباق قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلقنا أطوارًا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظامًا ثم تقول إنا نبعث خلقًا جديدًا جميعًا في ساعة واحدة فأنزل الله هذه الآية لأن الله لا يصعب عليه ما يصعب على العباد وخلقه لجميع العالم كخلقه لنفس واحدة.
{إنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ} سميع لما يقولون، بصير بما يفعلون.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهَار وَيُولج النَّهار في اللَّيل} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يأخذ الصيف من الشتاء ويأخذ الشتاء من الصيف، قاله ابن مسعود ومجاهد.
الثاني: ينقص من النهار ليجعله في الليل وينقص من الليل ليجعله في النهار، قاله الحسن وعكرمة وابن جبير وقتادة.
الثالث: يسلك الظلمة مسالك الضياء ويسلك الضياء مسالك الظلمة فيصير كل واحد منهما مكان الآخر، قاله ابن شجرة.
ويحتمل رابعًا: أنه يدخل ظلمة الليل في ضوء النهار إذا أقبل، ويدخل ضوء النهار في ظلمة الليل إذا أقبل، فيصير كل واحد منهما داخلًا في الآخر.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي ذللهما بالطلوع والأفول تقديرًا للآجال وإتمامًا للمنافع.
{كَلٌّ يَجْري إلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى} فيه وجهان:
أحدهما: يعني إلى وقته في طلوعه وأفوله لا يعدوه ولا يقصر عنه، وهو معنى قول قتادة.
الثاني: إلى يوم القيامة، قاله الحسن.
{وَأَنَّ اللَّهَ بَمَاَعْمَلُونَ خَبيرٌ} يعني بما تعملون في الليل والنهار.
قوله تعالى: {ذَلكَ بأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: هو الله الذي لا إله غيره، قاله ابن كامل.
الثاني: أن الحق اسم من أسماء الله، قاله أبو صالح.
الثالث: أن الله هو القاضي بالحق.
ويحتمل رابعًا: أن طاعة الله حق.
{وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ من دُونه البَاطلُ} فيه وجهان:
أحدهما: الشيطان هو الباطل، قاله مجاهد.
الثاني: ما أشركوا بالله تعالى من الأصنام والأوثان، قاله ابن كامل.
{وأن الله هو العلي الكبير} أي العلي في مكانته الكبير في سلطانه. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَلَوْ أَنَّمَا في الْأَرْض منْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ}.
روي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن اليهود قالت يا محمد كيف عنينا بهذا القول: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا} [الإسراء: 85] ونحن قد أوتينا التوراة فيها كلام الله تعالى وأحكامه وعندك أنها تبيان كل شيء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التوراة قليل من كثير» ونزلت هذه الآية، وهذا هو القول الصحيح، والآية مدنية وقال قوم: سبب الآية أن قريشا قالت سيتم هذا الكلام لمحمد وينجسر فنزلت هذه الآية، وقال السدي: قالت قريش ما أكثر كلام محمد فنزلت.
قال الفقيه الإمام القاضي: والغرض منها الإعلام بكثرة كلمات الله تعالى وهي في نفسها غير متناهية وإنما قرب الأمر على أفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، وأيضًا فإن الآية إنما تضمنت أن {كلمات الله} لم تكن لتنفد، وليس تقتضي الآية أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور، قال أبو علي: المراد ب الكلمات والله أعلم ما في المقدور دون ما أخرج منه إلى الوجود، وذهبت فرقة إلى أن الكلمات هنا إشارة إلى المعلومات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا قول ينحو إلى الاعتزال من حيث يرون في الكلام أنه مخلوق وهذه الآية بحر نظر، نور الله تعالى قلوبنا بهداه، وقرأ أبو عمرو وحده من السبعة وابن أبي إسحاق وعيسى {والبحرَ} بالنصب عطفًا على ما التي هي اسم أن، وقرأ جمهور الناس و{البحرُ} بالرفع على أنه ابتداء وخبره في الجملة التي بعده لأن تقديرها هذه، حاله كذا، قدرها سيبويه وقال بعض النحويين هو عطف على أن لأنها في موضع رفع بالابتداء، وقرأ جمهور الناس {يَمده} من مد وقرأ الحسن بن أبي الحسن {يُمده} من أمد، وقالت فرقة هما بمعنى واحد، وقالت فرقة مد الشيء بعضه بعضًا وأمد الشيء ما ليس منه، فكأن الأبحر السبعة المتوهمة ليست من الموجود، وقرأ جعفر بن محمد {والبحر مداده} وهو مصدر، وقرأ ابن مسعود {وبحر يمده}، وقرأ الحسن {ما نفد كلام الله}، ثم ذكر تعالى أمر الخلق والبعث أنه في الجميع وفي شخص واحد بالسواء لأنه كله بكن فيكون قاله مجاهد.
وحكى النقاش أن هذه الآية في أبي بن خلف وأبي الأسود ونبيه ومنبه ابني الحجاج وذلك أنهم قالوا يا محمد إنا نرى الطفل يخلق بتدرج وأنت تقول الله يعيدنا دفعة واحدة فنزلت الآية بسببهم.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولجُ اللَّيْلَ في النَّهَار وَيُولجُ النَّهَارَ في اللَّيْل}.
هذا تنبيه خوطب به محمد صلى الله عليه وسلم والمراد به جميع العالم، وهذه عبرة تدل على الخالق المخترع أن يكون الليل بتدرج والنهار كذلك فما قصر من أحدهما زاد في الآخر ثم بالعكس ينقسم بحكمة بارىء العالم لا رب غيره، و{يولج} معناه يدخل، والأجل المسمى القيامة التي تنتقض فيها هذه البنية وتكور الشمس، وقرأ جمهور القراء {بما تعملون} بالتاء من فوق، وقرأ عباس عن أبي عمرو {يعلمون} بالياء، وقوله تعالى: {ذلك بأن الله هو الحق} الإشارة ب {ذلك} إلى هذه العبرة وما جرى مجراها، ومعنى {هو الحق} أي صفة الألوهية له حق، فيحسن في القول تقدير ذو، وذلك الباب متى أخبر بمصدر عن عين فالتقدير ذو كذا وحق مصدر منه قول الشاعر:
فإنما هي إقبال وإدبار. وهذا كثير ومتى قلت كذا وكذا حق فإنما معناه اتصاف كذا بكذا حق، وقوله: {وأن ما تدعون من دونه} يصح أن يريد الأصنام وتكون بمعنى الذي ويكون الإخبار عنها ب {الباطل} على نحو ما قدمناه في {الحق} ويصح أن تكون {ما} مصدرية كأنه قال وأن دعاءكم من دونه آلهة الباطل أي الفعل الذي لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة به، وقرأ الجمهور {تدعون} بالتاء من فوق، وقرأ: {يدعون} بالياء ابن وثاب والأعمش وأهل مكة ورويت عن أبي عمرو، وباقي الآية بين. اهـ.